ميرغني أبشر:في قطار “البداوي”.. بوابة تُرْعة في السودان تُحَرِّر عدن من الإستعمار؟!
الخطّاط العالمي وقيع الله يُفصل من “البي بي سي” لأنّ خطّه رديء!
كرامة الشيخ الغرقان.. والحسناء المصرية في “الغراند أوتيل”
فيها الطارف والمسكوت عنه، والسياسي والقراءة الأنثروبولوجية للشوارد من تاريخنا المجتمعي. إنه يحكي عن تاريخنا المعاصر، ولكن هذه المرة في سِرْبال جبة “المؤانسة” و”المجالسة”، والأخيرتان بعض من عنوانه التفسيري لمذكراته المعنونة (قطار العمر.. في أدب المؤانسة والمجالسة). أحدثك هنا عن مسطور “محمد خير البدوي” الصحافي والإعلامي المعروف، والد الألْمَعِيّة “زينب البدوي”. وعجبي أن رفيق لندن، وزميله في أجهر منصة إعلامية على ظهر البسيطة “بي بي سي”، شيخنا الأديب العالمي، وعبقري الرواية العربية “الطيب صالح”، ما كتب في تقديمه لمذكرات “البدوي” غير فهرسة، أعني (ببليوغرافيا) لفصولها فحسب، وهي خاطرة نهضت في واعيتي بعد فراغي من مطالعة أسطر “الطيب”، وما وجدت في مقدمته طعماً لذاك القلم البادع الذي كنا نتذوقه في زاويته الأسبوعية على أخيرة مجلة “المجلة” اللندنية “نحو أفق بعيد”.
وظني أن “البدوي” هبش ما أحسست به، فقد أشفع ما كتب “الطيب” بأسطر جميلة جزلة خطتها صغيرته “زينب”، عرضت فيها لحديث بينها وبين رئيسة وزراء الباكستان وقتها “بنازير بوتو”، قالت فيه الأخيرة إن “البدوي” (يذكرها بأبيها المرحوم ذو الفقار علي بوتو). ومما يقع في باب الشوارد المغيبة من تاريخنا المعاصر، وبه بعض طرافة، أن “قحطان الشعبي” كان يسكن و”البدوي” في داخلية واحدة “كوكس هاوس” في كلية غردون. وفي العام 1943م حدث نقص في الأيدي العاملة لجني القطن في مشروع الجزيرة، وجُند الطلبة لسد النقص، ضمت مجموعة “البدوي” في من ضمت من الطلاب “قحطان الشعبي”، وبعد انتهاء ساعات العمل نزل “قحطان” للاستحمام في “الترعة” – بالقرب من قرية ود سلفاب – في الناحية الجنوبية للقنطرة التي تتحكم بوابتها في انسياب الري، فجره التيار إلى داخلها ليخرج من الناحية الأخرى مندفعاً للسطح، وذهل الجمع وارتعب “قحطان الشعبي”. ماذا لو كانت أبواب القنطرة مقفلة في ذلك اليوم؟ لما وجد “قحطان” منفذاً للخروج ولمات غرقاً، ولما تحرر اليمن الجنوبي على الأرجح من قبضة الاستعمار البريطاني!! فقد قاد “قحطان الشعبي” لاحقاً الثورة التي حققت جلاء البريطانيين عن الجنوب العربي، وهو أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في الفترة من 1967م إلى 1969م، وقد تمت تصفيته لاحقاً في محبسه الانفرادي في عهد الرئيس علي ناصر.
ومن شوارد تاريخ الأمكنة التي ما تزال تلعب دوراً حيوياً في حياتنا المعاصرة “دار حزب الأمة” بشارع الموردة، فقد كان الدار وحتى ما بعد 1936م سراي لرجل الأعمال الوطني السيد “أبو العلا”. وفي تاريخ الأمكنة يحكي “البداوي” كما ينطقه الإنجليز: (كانت تحيط بقبة الغرقان – قبة الولي الصالح “الشيخ دفع الله الغرقان” بحي البوستة أم درمان – بيوت عتيقة حقيرة، يسكنها لفيف من مريدي الشيخ الغرقان مع أسرهم، وقد داهمت الشرطة في أوائل الأربعينات تلك البيوت، فأخرجت منها العديد من المسروقات والأسلحة البيضاء والخمور البلدية وأدوات تقطيرها. وأطلقت الشرطة بكفالة مالية سراح الشيخ “جاه الله” (الخليفة) في انتظار محاكمته. لكنه توفي فجأة عشية محاكمته، واعتبر ذلك كرامة أنجته من المرمطة أمام القاضي الإنجليزي).
وقبيل أن نغادر شوارد تاريخ الأمكنة، يحضر الفندق الكبير (الغراند أوتيل) بسجله المجتمعي العريض وقتئذ، وللفندق الكبير في ذلك العهد شهرة عالمية وخاصة المصطبة (تيراس) المطلة على النيل الأزرق، وكوكتيل حجازي (البارمان) الذي لا مثيل له في أرقى حانات العالم، والذي يأتي إليه البعض خصيصاً من أنحاء أوروبا لاحتسائه على التيراس. وقد عمل صاحبنا موظفاً فيه، شهد وعاش الكثير من الوقائع هناك، وكان ذات مرة بطلاً لمغامرة مع سيدة مجتمع وفنانة مصرية حسناء غنوج من نزلاء الأوتيل، رمز لها بالحرفين (ق.د)، وتعبت أيما تعب وأنا أفتش في قائمة المطربات المصريات ممن زُرن السودان وقتها، حتى أجلب لك اسمها، وأصابتني “هاء السكت” على حد تعبير القاص “بشرى الفاضل” في “حكاية البنت التي طارت عصافيرها” حين عرفتها، فقد طلسم صاحبنا في حروفها إمعاناً في الطمس، وهذه محمدة له، لن أفض سرها حتى لا تطير عصافير كثيرة غضباً، وتكذيباً، فسيدتنا اللعوب الغنوج الرعبوب، من بيت دين وعلم في مصرها.
وفي تخوف عرب “البي بي سي” من إجادة السودانيين لمادتهم، وتحليهم بالصدق والأمانة، وهي أشياء تدعو لاطمئنان المسؤولين البريطانيين، ووثاقتهم فيهم دون غيرهم من العرب، يروي “البدوي” حكايات، من بينها طرفة فصل التشكيلي والخطاط العربي والعالمي السوداني جهيرة السيرة “عثمان وقيع الله” عن الخدمة بحجة أن خطه رديء!! فقد كان “حسن الكرمي” مقدم برنامج “قول على قول” وقتها يدس للسودانيين هناك غيرة وحسداً من عنده.
ولا يقف بك “البدوي” في ذاكرته فحسب، بل يمضي يروي لك مما سمع ميراثاً. فقد فاضت روح الإمام المهدي بين يدي زوجه “آمنة بنت أبي بكر الجركوك” المصرية، وهي عند الإمام بمكانة “عائشة بنت الصديق”، وبلغ المهدي من شغفه بها، أن أوصى عليه الرضوان بأن يُدفن في غرفتها ثم بُنيت القبة غبّ ذلك. وشاع عند وفاته أنه مات مسموماً على يد زوجته “آمنة” انتقاماً لأبيها الذي ذبحه الأنصار يوم سقوط (فتح) الخرطوم.
وللبدوي قراءاته الأنثروبولوجية الخاصة لما شهد وسمع، فحين ساقته الأقدار بعد أربعين عاماً من أحاجي عمته “البتول” التي سمع، إلى بريطانيا – “البتول” أخت الشيخ “بابكر بدري” رائد تعليم المرأة في السودان – وقع في يديه كتاب يضم مجموعة الأحاجي الاسكتلندية، ودهش صاحبنا للشبه الكبير بينها وبين حكايات عمته “البتول” التي كانت تحكيها، شبه بلغ في مرات حد التطابق، ويعلل ذلك التشابه في الأحاجي الشعبية بأن البشر في بداية الخليقة كانوا أمة واحدة، ثم تفرقت على مرّ الحقب والأجيال، وبقيت بينها أواصر الأحاجي في جوهرها وإن اختلفت في تفاصيلها. ولكني أقول، لعلم الآثار والأُناسة إطروحات أخرى تعلل هذا التشابه بين ثقافات الشعوب المتباعدة جغرافياً، ولكننا لسنا هنا في معرض الحديث عن ذلك.
وفي رحلة له بالباخرة من مدينة “بور” إلى “جوبا” رست الباخرة في شامبي، فرأى لأول مرة في حياته فتيات عاريات في العراء من قبيلة النوير يجلسن تحت شجرة، هذا المشهد ساق صاحبنا للنظر في ما تعنيه الملابس للإنسان، ومضى يفصل في خبرته التي اعتصر: (ومن الناس من يظن أن في الحجاب ضماناً للعفة والطهارة، لكنه في رأيي داعٍ للفساد وحافز للغواية. الحجاب يجعل الجسم نجاسة تُشتهى لا بد من حجبها وراء أستار وأسوار. ليست هذه دعوة لسفور المرأة ورفض للحجاب، وإنما دعوة إلى الاعتدال باعتبار أن وظيفة الملابس إظهار جمال الأجسام لا إخفاؤه أو إخفاء القبيح منها، والثوب السوداني الذي ترتديه نساؤنا مثالي، يؤدي في اعتدال الوظيفة المطلوبة من الثياب: عفة وطهارة وحياء. يظهر الجميل ولا يخفي القبيح أو يعين على ارتكاب جريمة). وستشهد بشعر للمحجوب في الثوب:
وقوامٌ قد لفه الثوب نعمى
واحتواه الهوى غير شريكِ
كل خيطٍ يود لو يتدلى
عند ساقيكِ بالمنى يحتويكِ
بورك الثوب ضم عطراً ونوراً
ومزاجاً من الجوى والشكوكِ
وكم أعجبتني طريقته في تلخيص حقبة طويلة من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، حين يمزج في أسطر ثلاث، بين التجربة السوفيتية، وسجال عظماء النجمة الحمراء السودانية حين سطّر:
(.. والمتتبع لتأريخ الحزب الشيوعي السوداني يرى في ثلاثتهم تشابهاً كبيراً مع تروتسكي “عوض عبد الرازق”، وستالين “عبد الخالق محجوب”، وخروتشوف “أحمد سليمان المحامي” الذي افترس ستالين ميتاً وسطر بذلك الأحرف الأولى في شهادة وفاة الحزب الشيوعي السوفييتي ودولته)!!
وفي الحراك السياسي في السودان وتقلباته وتعاقباته اللامنطقية، يورد “البدوي” مقالة تُنسب إلى بريطاني عمل في السودان في عهد الحكم الثنائي تقول:
“إن ما يجري في السودان لا يمكن أن يتنبأ به إلا نبي أو غبي!!”
وأخيراً، دعني أختار لك في نهاية مقالي هذا عن قطار عمر جميل الطوية، عليه رضوان الله ورحمته، الأستاذ “محمد خير البدوي”، الذي جالسته كثيراً بداره في حي العباسية بأم درمان، أبيات من قصيدة الشاعر “أحمد محمد الشيخ الجاغريو”، الذي كان يسمر معه صاحبنا “البداوي” بانتظام في بيت معشوقته المجاور لسكن صاحبنا في حي “الشيخ دفع الله”، والتي نظم فيها “الجاغريو” رائعته “طار قلبي” التي تغنى بها الكبير “أحمد المصطفى”:
طار قلبي مني وقال ما هو عايد
ما دام مفارقو اللى أرواحنا سايد
وبهذه الشهادة، ينهي “البدوي” جدلاً دار طويلاً بين الناس في من هي صائدة الأغنية، محظية “الجاغريو”. أعود للأبيات التي أقصد، من القصيدة التي أنشدها “الجاغريو” في حضرة زعماء الحركة الاتحادية وقتها، “الأزهري” و”يحيى الفضلي” و”مبارك زروق” وآخرين، والتي ألقاها من على منبر بمدينة الخرطوم بحري وعند عتبة دار الميرغني كيداً وغيظاً، واختياري لهذه الأبيات جاء من عند حالنا اليوم، فما أشبه يومنا ببارحة صاحبنا، فتأمل:
نحن رفعنا أعلاماً وطردنا عدوها
ونحن شلنا ناراً بيدورو ياكلو حلوه
ألا بدين في الضلام لامن حِلت ختفوه
هذا، يا سيدي وسيدتي، عرضٌ لبعضٍ قليلٍ من شوارد تاريخنا السياسي والثقافي المعاصر، مطوي عن عامة الناس، بسطه صاحبنا في سفره الماتع، لعله يوفي دَيناً مستحقاً.
القوات المسلحة تحرر بارا
بسم الله الرحمن الرحيم القيادة العامة للقوات المسلحة بيان الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥م يقول المو…