‫الرئيسية‬ Uncategorized ميرغني أبشر يكتب : بيوت “المَقَدر” ..وحكاية أغنية “ياحبيبي ما بنفترق الاّ الموت يشيل جوز طبق”
Uncategorized - ‫‫‫‏‫27 دقيقة مضت‬

ميرغني أبشر يكتب : بيوت “المَقَدر” ..وحكاية أغنية “ياحبيبي ما بنفترق الاّ الموت يشيل جوز طبق”

ونسة.. ميرغني ابشر

 "المَقَدر"،سمعتها أول ما سمعتها بلسان محكِيّ "الحبوبات"،وقد تحرَّرت من مكنوننها كفعل متعالي يشير لفاعله "القدير" سبحانه وتعالى،لكناية ودال لموضع ومكان بعينه، وفي طَويّتها مدلول الفعل! . سمعتها عند "جَمَال"، جمال الطيب محمد سليمان ،حفيد الخليفة عبدالله التعايشي، كان ذلك في أمسية من أماسي صيف ابريل 2016م، ونحن جلوس على مرمى حجر من بوابة "منتدى اولاد أمدرمان" قبالة حديقة الملازمين ، وفي رفقتنا الصحافي والباحث المجتمعي صديقنا محمد يوسف "الدينكاوي"،كنا ثلاثتنا نُحضِّر لحلقات إذاعية لبرنامجي "إبحار في ذاكرة مكان"، الذي يبث عبر أثير إذاعة "البيت السوداني" ،نوثق فيه المنسيّ من تاريخ الأمكنة . كان جَمَال وقتها مفعماً بالحيوية والنشاط ،لم يتمكن منه "داء السُّكر"بعد، وكانت له طريقته "الأُرُستقراطية" في تدخين السجار  يرسل خيوط الدخان بعرج كرموسومي ينساب لجهة طرف عينه اليمنى، وهو يحكّينا بصوته الإذاعي من طبقة "الباس باريتون" الأوبرالية الرنينة عن التاريخ السري لبيوتات الخرطوم الكبرى، وهو قطعاً به نتف مثير غير قابل للنشر . في تلك الأمسية الصيفية وقعت على مسامعي عبارة "المَقَدر" بترتيل حبيب في متن قصِّه عن المحُسنة متوسطة الجمال جهيرة السيرة "زينب بت بيلا"،والتي كانت تملك "طا" الخرطوم بحالها،اي بيوت وسط المدينة (المستعمرة الانجليزية) وقتها ،كثيراً منها الأن مرافق حكومية رفيعة. واصالة المسمى "المَقَدر" وخصوصيته الميّزة عند "جمال" ،في أن الراوي تتحدر مروياته عن سلسلة ذهبية، وعنعنة موصولة بمصادر موثوقة  تنتهي بالفاعل الأساس في اخر السلسلة. فمثلاً مروياته عن "زينب بت بيلا" مصدرها "صبي البيت " و"مُرسالها" ، جالسه  صاحبنا "جمال" وقد أنتهى شيخاً حاضر الذهن بمشفى التجاني الماحي!!."وزينب"هذه كانت بهيجة الاُبهة، قسيمة القوام ،متوسطة الجمال ،ظنينة السمعة ،ونيسة الحاكم العام . لها عربة تجرها الخيل"حنطور" ، كما أنها أول سودانية تملك عربة (موتور) ، ووقتها فقط هناك ثلاثة عربات صالون في عموم البلاد، واحدة للحاكم العام الإنجليزي ،والثانية عند الإمام "عبد الرحمن المهدي" والثالثة لصاحبتنا . وكانت عربتها (الحنطور) تزيد "بحصانين" عن (حنطور) الحاكم العام . ومن حكمتها أن ذهبت سراً لمصر وأشترت  هناك محضناً فخيماً واملاك عريضة لبنتها وولدها الوحيدين ،وقطعت علاقتها بهما في كفالة من ائتمنته عليهما حتى لا يكبرانا في غلاف سمعتها الظنينة . وقيل أنهما صارا من الأكابر هناك،وقد راج مؤخراً بأنها لم تنجب بل كان لها ولداً بالتبني ، وهو قولاً مردود بحسب مصادر صاحبنا . ويحكى عنها كرامات عجيبة، حتى وهي في شأنها الظنين ذاك مع الخواجات . لعل الله لا يبالي بمعاييرنا ،فقد خرج "موسي" قاتل يترقّب، فمنحه الله النبوة سبب قلق الشرق الأوسط المعاصر. فحكمته  تعالى لا تدركها الأبصار، (ولا أحد يعلم  ماذا يدور في خلد الاله) على حد تعبير شيخي "الطيب صالح". وقد تابت "زينب" قبل أخر أيامها وعملت عملاً صالحاً وحجت لبيت الله الحرام. 

ومن موثقيات “جمال” المدقق في تاريخ الأمكنة شفاهة عن عنعنة ذهبية أن عبد القيوم الذي سميت البوابة باسمه هو أمين سر الخليفة، فبعد معركة (ام دبيكرات)( الجمعة 24 نوفمبر 1899م) اوصي الخليفة (أبّا عبدالقيوم) – كما يتداولها عيال التعايشة – بالذهاب بولدي الخليفة “يحي”و”السيد علي” الي منطقة (الرماش) والتي تقع شمال شرق (سنّار) بالقرب من جبل “بان” وهي المنطقة التي توفي فيها (ابّا عبد القيوم) في سنة 1935م ودفن مع ولدي الخليفة يحي والسيد علي. واسمه (عبد القيوم محمد أحمد) وهو من قبيلة الرباطاب وقدم مع أهله لمبايعة (المهدي) في (ابو سعد) وقت حصار (الخرطوم). وقبل مقدمه لامدرمان نزل بمدينة الدامر وتزوج من كريمة الشيخ (المجذوب) وله منها ولد حارب واستشهد في واقعة كرري(صبيحة 2 سبتمبر 1898م)،وعند مقدمه لمدينة امدرمان تزوج مرة أخري من السيدة (فاطمة بت شواش بت تمام محمد) من قبيلة الشايقية تسكن وأهلها حلفاية الملوك والتي تقع في الضفة الشرقية لنهر النيل قبالة مدينة امدرمان ويقطن احفاده مدينة سنجة وجزء منهم يسكن في مدينة كوستي. وكان عبد القيوم بمثابة حكمدار السرية التي تحرس بوابة امدرمان الجنوبية، والتي أخذت اسمه فيما بعد وقد ظلت بوابة عبد القيوم تمارس دورها التنظيمي في حياة سكان امدرمان القديمة وحتى بعد زوال السور من جنباتها وانتهى الحقبة المهدية. ففي سنة 1948م كانت تشاهد الحاجة (الفريع) بت (الشيخ إسحاق حمد النيل) عساكر الانجليز وهــم ينظمون طابور فتح وإغلاق البوابة عند الصباح وفي المساء. وفيما يبدو قد لعب هذا الدور الرمزي للبوابة الذي ينظم حياة المدينة الدور الجوهري في بقائها دون سواها من البوابات الاخري للمدينة التي طواها النسيان. والحاجة “الفريع” هذه كان يجالسها “جمال” في دارها بحي “ابوكدوك” بمدينة أمدرمان ويأخذ عنها مباشرة بعض مروياته الشعبية عن فترة الإستعمار، ويحكي لنا عن قصة ظهور أغنية البنات ذائعة الشهرة:

ياحبيبي ما بنفترق الاّ الموت يشيل جوز طبق

فهل سمعها الشاعر الفلسطيني المخضرم “محمود درويش” حين نظم بتحريف جميل :
( يوماً ما قلنا لن نفترق إلا بالموت ..تأخر الموت وافترقنا ؟)

وحكاية الأغنية أن الزعيم القبلي المعروف وقتئذ ،وصاحب السرايا الفخيمة المطلة على أحد شوارع الموردة ،وقع في حب بنت رعبوب لا مثيل لها في الفتنة من بنات بيت "المقدر"، وأنتشلها من قدرها  الحرج وتزوج بها على شرط أن تقطع صلاتها بصويحبتها وبماضيها هناك ، وقد كان له ما اراد ،ولكن بعد سنين عاود الجميلة  الحنين لمؤانسة رفيقات المحنة القديمة ، فخرجت سراً تتقصدهن بعد أن خرج رب السرايا في شأن يومياً له  ،و اكتمت  الجميلة خادمتها السر ، ولكن عاد الزوج العاشق سريعاً على غير عادته في ذلك اليوم ، ولم يجد محراب حبه،سأل  وأنتهر الخادم وملأها رعباً فإنهارت المسكينة وأفشت كتمها ، وأنتظر الرجل عودة معشوقته متكياً على بندقيته،وعادت جميلتنا بخفة قبيل العصر بقليل قبل موعد رجوع الزعيم لدارته ،بعد أن تضاحكت  وتأنست على قهوة المقيل وأجزلت العطاء لرفيقات الأمس بكرم من لاينسى عشرة الأخوان . دلفت جميلتنا لصحن دارها وهي تفك عنها ثوبها سِراعاً في عَجَلت من وضع حليباً على النار وسهى عنه ليتذكره مخلوعاً خشية فورته ،ولكن سقط في يدها وفغرة فاها وتاطات الرأس ،بعد أن نظرت الحبيب وعيناه موقدا. سؤال واحد وإجابة صادقة واحدة ،أعقبها صوت طلق ناري ،واحدة في  قلبها هي، واخرى تحت ذقنه هو ،لتنوم امدرمان حزينة ليلتها ،والقبيلة صامتة تتحسر. ثم تتغنى البنات بالقصة الحكاية المسكوت عن روايتها .

يقيناً صديقي القارئ قد عرفت معنى "المَقَدر" ،وكيف استطاعت العاقلة الشعبية السودانية بسماحتها الصوفية الرحيمة - أقول الرحيمة لا الرحمانية لأن الأخيرة أهل اللغة والتفسير والفقه قالوا لا يجوز إطلاقها لوصف غير الله ، هكذا جزم لنا الزمخشري في كشافه المفسّر للقرآن – إستطاعت هذه العاقلة الشعبية أن تنقل هكذا فعل متعلق بالقدير لمسمى مكان يتباضع فيه القوم (المستور)،وأظنه مسمى اوقع والطف وأعمق مدلولية من مسميات رديفة في المعنى قبيحة الوقع،أعني "الإنداية" ،"بيوت الدعارة"،"ماخور"،"الرذيلة" وبقية المترادفات "الشوارعية" حامضة الذائقة . ففي الوقت ذاك كانت البنت بسذاجة (ريفية) مفعمة بعاطفة يفورها الحرمان، تتورط مع الحبيب في "الفعّلة الرذيلة" بلا واقي ولا عازل ولا مانعة تُبلع ولا شريحة مدسوسة تحت الجلد . وحين يثبت حملها تهرب بليل للمدن الواسعة، خائفة يكسوها العار، هكذا كبُرت البيوتات الطرفية "المتواضعة"في جوار المدن الكبرى عبر التاريخ ، حتى في رسم المدينة الملكية في مروي القديمة قبل التاريخ، تم العثور على شواهد ذلك، وظهرت في تلك "المواخير" حسان يكتمن أصلهن ،وقد تورطن بقدر في ذلك ، ليكن"المَقَدر" المكان هو الملاذ لستر القدر!!.

وأخيراً صديقي وصديقتي القارئة ،كان “جَمَال” في شهوره الأخيرة كثير الصلاة على النبي ،بل تكاد كل مساهماته على صفحات التواصل الإجتماعي صلاة على النبي الأعظم ، وأسفي أنه رحل عنا قبل أن اوفي له بطلبين الأول مصحف برسم يسهِّل عليه التجويد، والأخر نسخة طلبها بإلحاح أنيق من الحلقة الإذاعية التى تحدث فيها عن دار فوز محضن الحركة الوطنية السودانية، وملهمة اغنيات الخليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

قافلة ملحمة الكرامة الطلابية تصل الخرطوم لإعمار الداخليات

الخرطوم : طل نيوز وصلت إلى ولاية الخرطوم قافلة الكرامة الطلابية الكبرى لإعمار الداخليات، و…