ميرغني أبشر يكتب : كنوز إفريقيا في الفاتيكان: غياب الدراسات وأيقونة المسيح الأسود
في واحدة من أغرب المفارقات الثقافية والتاريخية، استقرت آلاف المخطوطات والآثار والرقم الإفريقية النادرة على رفوف مكتبة الفاتيكان، بعيدًا عن موطنها الأصلي في وديان النيل ومرتفعات الحبشة وغابات الكونغو. لم تكن هذه الرحلة دائمًا سلمية أو مبررة علميًا، إذ حملت آثار القارة السمراء إلى عاصمة الكثلكة الأوروبية بعثاتٌ كنسية واستعمارية وحملاتٌ تبشيرية ومبادراتٌ أثرية شارك فيها علماء لاهوت ومغامرون ومخبرون سياسيون. تسربت من خلالها مقتنيات كوشية ونوبية وإثيوبية ثمينة إلى صالات أرشيفية محكمة الإغلاق لا يُفتح بعضها إلا لأعين النخبة الدينية في مناسبات استثنائية.
مستويات السرية في مكتبة الفاتيكان
ومستوى السرية في مكتبة الفاتيكان يتراوح بين “مرفوض لاهوتيًا” إلى “لا يُعرض إلا للبابا وحده”، وقد ظلت هذه المقتنيات لقرون بمنأى عن النقاش العام أو الدراسة الأكاديمية الكاملة. نجد في أعلى مراتب السرية ما يُعرف بـ”الإنجيل السري ليسوع”، وهو نص غامض يتناول حياة وتعاليم المسيح من منظور صوفي عميق، يُعتقد أنه يعرض رؤية تأملية داخلية للعقيدة، تتجاوز المألوف الكنسي. هذا النص لا يُعرض إلا للبابا عند تنصيبه، ويُقال إنه يتضمن مفاهيم روحية تتناقض مع الخط الرسمي للعقيدة المسيحية، ولهذا لا يُتداول مطلقًا خارج الأوساط المغلقة. يليه “إنجيل مريم المجدلية”، وهو نص غنوصي يُبرز مريم المجدلية في دور قيادي غير معهود، ويقترح تفسيرات مختلفة لحياة يسوع وبعثه، مما يعارض البنية الهرمية الكنسية الذكورية. بينما “إنجيل توما”، وهو مجموعة من الأقوال المنسوبة ليسوع دون تسلسل تاريخي، يُعتبر أقل سرية، لا سيما بعد اكتشافه ضمن مكتبة نجع حمادي القبطية في مصر، لكن رؤيته التأملية لا تزال مثيرة للجدل. تحتفظ المكتبة أيضًا بنسخ نادرة وغير منشورة من لفائف البحر الميت، ويُعتقد أن بعضها يحتوي على إشارات مبكرة للمسيح أو طوائف دينية سبقت المسيحية الرسمية، مما يجعلها مصدرًا حساسًا ومثيرًا لاهتمام الفاتيكان، خصوصًا في ظل الغموض المحيط بعلاقتها بالفكر اليهودي القديم. أما في المجال الباطني، فتظهر نصوص مثل “الغنوص الكبير”، الذي يستعرض رؤية فلسفية شاملة للكون والروح والإله الخفي، وتُعد هذه الوثيقة من أكثر النصوص سرية، بسبب طابعها الهرمسي – الكوني الذي يتقاطع مع التصوف الوثني أكثر مما يقترب من المسيحية الأرثوذكسية. يُضاف إليها عدد من Grimoires اللاهوتية، وهي كتب طلاسم واستحضار أرواح، تتضمن أسرارًا روحانية مثل استجلاء “النور الإلهي”، وتُحفظ بنسخ لاتينية مشفّرة، لا يُسمح بالاطلاع عليها إلا في ظروف بحثية نادرة للغاية.
المقتنيات السودانية والإثيوبية
لكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن المقتنيات الإفريقية، وعلى وجه الخصوص المقتنيات ذات الأصول السودانية، إذ تُعد مكتبة الفاتيكان اليوم أحد أكبر مستودعات المخطوطات الإثيوبية والنوبية خارج إفريقيا، إذ تحتفظ بما يزيد على تسعمئة مخطوطة باللغة الجعزية وحدها، إلى جانب ترجمات كوشية نادرة لأسفار مقدسة وإنجيلات منقوشة على رق الغزال أو أوراق البردي. كما تضم مجلدات شعائرية ومزامير وأناشيد كنسية من ممالك أكسوم ومروي وألبا، وكثير من هذه النصوص كُتبت بأسلوب لغوي ودلالي فريد يجمع بين العناصر المسيحية المبكرة والرؤية الروحية الإفريقية القديمة. بدأت المقتنيات النوبية في الوصول إلى مكتبة الفاتيكان ومتاحفها مع مطلع القرن العشرين، حين نشطت البعثات التبشيرية الكاثوليكية في السودان الجنوبي والشرقي، ثم مع حملات الآثار التي رافقت مشاريع إنقاذ المواقع المهددة بالغرق بفعل بناء السدود. في هذا السياق، أدّت البعثة البولندية للآثار التي شاركت في إنقاذ آثار فرس شمال السودان دورًا محوريًا في الكشف عن كنائس مدفونة تحت الرديم، من بينها ما يُعرف اصطلاحًا بـ”الكنيسة الطينية”، وهي مبنى أثري يُرجَّح تأريخه للقرون الأولى الميلادية، عُثر في أحد تجاويفه على جداريات فريدة وشواهد ذات رموز مسيحية محلية الطابع. من بين القطع اللافتة في مجموعة الفاتيكان، توجد صلبان طقسية من النحاس المطروق ومباخر من الحجر البركاني وأقنعة طقسية كانت تُستخدم في احتفالات دينية عند بعض جماعات حوض النيل الأوسط. كما تشمل المجموعة قلائد ذات نقوش هيروغليفية وكتابات مروية مختلطة بعناصر من الأبجدية القبطية، ما يشير إلى تواصل لغوي وثقافي عميق لم ينل حظه من الدراسة. ويُعتقد أن كثيرًا من هذه القطع وصلت إلى الفاتيكان عبر قنوات غير موثقة أثناء فترات التوسع الاستعماري الأوروبي.
غياب الدراسات الأكاديمية، وأيقونة المسيح الأسود!
رغم غزارة المادة، لم تجد هذه الكنوز اهتمامًا أكاديميًا كافيًا من جانب الباحثين المعاصرين، خصوصًا المختصين بتاريخ المسيحية الإفريقية المبكرة. يعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها القيود التي تفرضها مكتبة الفاتيكان على النفاذ إلى أرشيفها السري، والحساسيات السياسية التي تحيط بملف إعادة الممتلكات الثقافية، إضافة إلى ضعف التمويل المتاح للدراسات الميدانية والمقارنة في هذا الحقل. غير أن إحدى القطع تحديدًا أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط المغلقة، ويتعلق الأمر بجدارية يُشار إليها أحيانًا باسم “لوحة المسيح الأسود”. اللوحة ذات الطابع الجداري اكتُشفت خلال أعمال التنقيب في الكنيسة الطينية تحت كنيسة فرس، وهي تُظهر شخصية يُعتقد أنها للمسيح، ملامحها نوبية بوضوح، يغمرها هالة من الألوان الزرقاء والذهب والحنّاء، وترتدي جلبابًا أبيض مزركشًا بزخارف مروية. لم تُعرض هذه اللوحة في أي متحف علني، بل نُقلت إلى الفاتيكان في سرية تامة، ويُقال إنها محفوظة في غرفة خاصة لا تُعرض إلا أثناء طقوس تنصيب البابا الجديد، وهو ما لا تؤكده وثائق رسمية لكنها تتكرر في أكثر من شهادة ضمنية لأشخاص خدموا في دوائر الفاتيكان. لا يُعرف على وجه التحديد متى بدأت هذه اللوحة تُعد جزءًا من الطقوس المغلقة للفاتيكان، إلا أن تاريخ اكتشافها يوازي بداية الستينات من القرن العشرين، حين كانت البعثة البولندية نشطة في شمال السودان. ويجمع بعض الباحثين على أن الأسلوب الفني الذي أُنجزت به اللوحة لا ينتمي للمدرسة البيزنطية ولا للأيقونية القبطية المعروفة، بل يُظهر خصائص محلية استمدت وحيها من الفن الجداري الكوشي الذي كان سائدًا في مروي ونبتة. قد تبدو هذه الرواية مجرد سردية ثقافية أو تمجيدية للهوية الإفريقية، لكنها تُثير سؤالًا أعمق حول موقع إفريقيا الحقيقي في التاريخ المسيحي، ومدى مساهمتها في تشكيل الإيمان الأولي الذي سبق التدوين الرسمي للكتاب المقدس. هذه المقتنيات، بما فيها المخطوطات النوبية واللوحة الجدلية، ليست مجرد ذخائر تاريخية، بل شواهد على مساهمة حضارية ما تزال تُدفن عمدًا تحت سطوة المركزيات البيضاء التي هيمنت على سردية المسيحية العالمية.
وأخيراً ، يبقى السؤال معلّقًا: إلى متى ستظل هذه الكنوز حبيسة الرفوف المغلقة، بعيدة عن أنظار أهلها؟ وإلى أي مدى يمكن لمكتبة بحجم الفاتيكان أن تسهم في تحقيق عدالة ثقافية حقيقية تعترف بجذور الإيمان المتعددة وتعيد قراءة المخفي والمنسي من تاريخ القارات التي أُقصيت من نص الخلاص؟
المراجع الأساسية:
- Nongbri, B. (2018). God’s Library: The Archaeology of the Earliest Christian Manuscripts
- UNESCO (2021). Restitution of African Cultural Heritage: Toward a New Relational Ethics
- روبرت آيزنمان (1997). مخطوطات البحر الميت المسيحية.
- أرشيف البعثة البولندية للآثار في السودان (1961-1969). المتحف الوطني السوداني.
- Michałowski, K. (1974). Faras: Wall Paintings in the Collection of the National Museum in Warsaw.
- د. ياسمين عبد الله (أستاذة تاريخ أفريقي).ندوة المجلس القومي للمرأة،احتفالاً بيوم افريقيا ،القاهرة 2025 ،”السرية أرشيف الفاتيكان ليست حماية للتراث، بل إخفاء لتعددية الرواية الدينية”
جامعة الخرطوم تعلن بدء الدراسة لطلاب السنة الأولي حضوريا بأمدرمان اكتوبر القادم
الخرطوم : طل نيوز قرر مجلس عمداء كليات جامعة الخرطوم في اجتماع طارئ برئاسة مدير الجامعة إس…